فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}.
قوله تعالى: {نوحي إِلَيْهِمْ} قد تقدَّم في آخر يوسف، وقرأت فرقةٌ {يُوحي}، أي: الله.
قوله تعالى: {بالبينات} فيه ثمانيةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل {رِجالًا} فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: رجالًا ملتبسين بالبينات، أي: مُصاحبين لها، وهو وجهٌ حسنٌ ذكره الزمخشري لا محذورَ فيه. الثاني: أنه متعلقٌ بـ {أَرْسَلْنا} ذكره الحوفيِّ والزمخشريُّ وغيرُهما، وبه بدأ الزمخشريُّ قال: يتعلَّق بـ {أَرسَلْنا} داخلًا تحت حكمِ الاستثناء مع {رجالًا}، أي: وما أرسَلْنا إلا رجالًا بالبينات كقولِك: وما ضربْتُ إلا زيدًا بالسَّوْطِ؛ لأنَّ أصلَه: ضربْتُ زيدًا بالسَّوْط، وضعَّفه أبو البقاء بأنَّ ما قبلَ {إلاَّ} لا يعمل فيما بعدهم إذا تَمَّ الكلامُ على {إلا} وما يليها. قال: وإلا أنه قد جاء في الشِّعر:
نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبوا بالنارِ جارتَهمْ ** ولا يُعَذِّبَ إلا الله بالنارِ

قال الشيخ: وما أجازه الحوفيُّ والزمشخريُّ لا يُجيزه البصريون، إذ لا يُجيزون أن يقع بعد {إلا} إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعٌ لذلك، وما ظُنَّ بخلافه قُدِّر له عاملٌ، وأجاز الكسائيُّ أن يليَها معمولُ ما قبلها مرفوعًا ومنصوبًا ومخفوضًا، نحو: ما ضَرَب إلا عمرًا زيدٌ، وما ضَرَب إلا زيدٌ عمرًا وما مرَّ إلا زيدٌ بعمروٍ، ووافقه ابنُ الأنباريِّ في المرفوع، والأخفش في الظرف وعديله، فما لاقاه يتمشَّى على قولِ الكسائي والأخفش.
الثالث: أنه يتعلَّقَ بأَرْسَلْنا أيضًا، إلا أنه نيةِ التقديمِ قبل أداةِ الاستثناء تقديرُه: وما أرسلْنا مِنْ قبلك بالبيناتِ والزبر إلا رجالًا، حتى لا يكونَ ما بعد {إلا} معمولَيْنِ متأخِّرَيْنِ لفظًا ورتبةً داخلَيْنِ تحت الحصرِ لِما قبل {إلا}، حكاه ابنُ عطية.
الرابع: أنَّه متعلقٌ بـ {نُوحِي} كما تقول: أُوْحي إليه بحق، ذكره الزمخشري وأبو البقاء. الخامس: أن الباء مزيدةٌ في {بالبيِّنات} وعلى هذا فيكون {بالبيِّنات} هو القائمَ مَقامَ الفاعل لأنها هي المُوْحاة. السادس: أن الجارِّ متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنَ القائمِ مَقامَ الفاعل، وهو {إليهم} ذكرهما أبو البقاء، وهما ضعيفان جدًا معنىً وصناعةً.
السابع: أَنْ يتعلَّق ب {لا تعلمون} على أنَّ الشرط في معنى التبكيتِ والإِلزام، كقولِ الأجير: إن كنتُ عَمِلْتُ لك فَأَعْطِني حقي. قال الزمخشري: وقوله: {فاسْألوا أهلَ} اعتراضٌ على الوجوه المتقدِّمة ويعني بقوله: {فاسألوا} الجزاء وشرطَه، وأمَّا على الوجهِ الأخير فعدَمُ الاعتراضِ واضحٌ.
الثامن: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ جوابًا لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: بم أُرْسِلوا؟ فقيل: أُرْسِلوا بالبينات والزُّبُر. كذا قدَّره الزمخشري، وهو أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء: بُعِثوا، لموافقتِه للدالِّ عليه لفظًا ومعنىً. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}.
تعجبوا أن يكون من البَشَرِ رُسلًا، فأخبر أنَّ الرسلَ كلّهم كانوا من البشر، وأَنَّ فيمن سبق مَنْ أَقَرَّ بذلك. {أَهْلَ الذِّكْرِ} هم العلماء؛ والعلماء مختلفون: فالعلماء بالأحكام إليهم الرجوعُ في الاستفتاء من قِبَل العوام فَمَنْ أُشْكِل عليه شيءٌ من أحكام الأمر والنهي يرجع إلى الفقهاء في أحكام الله، ومن اشتبه عليه شيءٌ من علم السلوك في طريق الله يرجع إلى العارفين بالله، فالفقيه يوقِّع عن الله، والعارف ينطق- في آداب الطلب وأحكام الإرادة وشرائط صحتها- عن الله، فهو كما قيل: أليس حقًا نطقت بين الورى فاشتهرت، كاشفها يعلم ما منَّ عليها فجرت، فهي عناء به عينيه قد طهرت.
{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} أي إن البيانَ إليك، فأنت الواسطة بيننا وبينهم، وأنت الأمين على وحينا. اهـ.

.تفسير الآيات (45- 50):

قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نبه سبحانه على التفكر، وكان داعيًا للعاقل إلى تجويز الممكن والبعد من الخطر، سبب عنه إنكار الأمن من ذلك فقال تعالى: {أفأمن} أي أتفكروا فتابوا، أو استمروا على عتوهم؟ أفأمن {الذين مكروا} بالاحتيال في قتل الأنبياء وإطفاء نور الله الذي أرسلهم به، المكرات {السيئات أن} يجازوا من جنس عملهم بأن {يخسف الله} أي المحيط بكل شيء {بهم} أي خاصة {الأرض} فإذا هم في بطنها، لا يقدرون على نوع تقلب بمدافعة ولا غيرها، كما فعل بقارون وأصحابه وبقوم لوط عليه السلام من قبلهم {أو يأتيهم العذاب} على غير تلك الحال {من حيث لا يشعرون} به في حالة من هاتين الحالتين شعورًا ما، هم في حال سكون ودعة بنوم أو غفلة {أو يأخذهم} أي الله بعذابه {في} حال {تقلبهم} وتصرفهم ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة.
ولما كانت هذه الأحوال الثلاثة مفروضة في حال أمنهم من العذاب وكان الأمن من العدو يكون عن ظن عدم قدرته عليه، علل ذلك بقوله تعالى: {فما هم بمعجزين} أي في حالة من هذه الأحوال، سواء علينا غفلتهم ويقظتهم، ولم يعلل ما بعده بذلك لأن المتخوف مجوّز للعجز، فقال تعالى: {أو يأخذهم} أي الله أخذ غضب {على تخوف} منهم من العذاب وتحفظ من أن يقع بهم ما وقع بمن قبلهم من عذاب الاستئصال، ويجوز أن يراد بما مضى عذاب الاستئصال، وبهذا الأخذ شيئًا فشيئًا، فإن التخوف التنقص عند هذيل، روي أن عمر- رضي الله عنهم- سأل الناس عنها فسكتوا فأجابه شيخ من هذيل بأنه التنقص، فقال عمر- رضي الله عنهم-: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم! قال شاعرنا أبو كثير الهذلي يصف ناقة:
تخوف الرحل منها تامكًا قردًا ** كما تخوف عود النبعة السفن

فقال عمر- رضي الله عنهم-: أيها الناس! عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.
ولما كان التقدير: لم يأمنوا ذلك في نفس الأمر، ولكن جهلهم بالله- لطول أناته وحلمه- غرهم سبب عنه قوله التفاتًا إلى الخطاب استعطافًا: {فإن ربكم} أي المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد {لرءوف} أي بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة، وكذا لمن قاطعه أتم مقاطعة، وإليه أشار بقوله تعالى: {رحيم} أي فتسبب عن إمهاله لهم في كفرهم وطغيانهم مع القدرة عليهم العلم بأن تركه لمعاجلتهم ما هو إلا لرأفته ورحمته.
ولما خوفهم، دل على تمام قدرته على ذلك وغيره بقوله: عاطفًا على ما تقديره: أو لم يروا إلى عجزهم عما يريدون وقسره لهم على ما لا يريدون، فيعلموا بذلك قدرته وعجزهم، فيعلموا أن عفوه عن جرائمهم إحسان منه إليهم ولطف بهم: {أولم} ولما كان حقهم المبادرة بالتوبة فلم يفعلوا، أعرض عنهم في قراءة الجماعة تخويفًا فقال تعالى: {يروا} بالياء التحتية، وقرأ حمزة والكسائي بالخطاب على نسق ما قبله، أي ينظروا بعيون الأبصار متفكرين بالبصائر، وبين بعدهم عن المعارف الإلهية بحرف الغاية فقال تعالى: {إلى ما خلق الله} أي الذي له جميع الأمر {من شيء} أي له ظل {يتفيؤا} أي تترجع إلى جهة الشاخص {ظلاله} وهو ما ستره الشاخص عن الشمس متجاوزة له {عن اليمين} وهي ما على يمين المستدير للشمال، المستقبل للجنوب، الذي هو ناحية الكعبة لمن في بلاد الشام التي هي مسكن الأنبياء عليهم السلام، وأفراد لأن الظل يكون أول ما تشرق الشمس مستقيمًا إلى تلك الجهة على استواء، وجمع في قوله: {والشمائل} لأن الشمس كلما ارتفعت تحول ذلك الظل راجعًا إلى جهة ما وراء الشاخص، ولا يزال كذلك إلى أن ينتصب عند الغروب إلى جهة يساره قصدًا على ضد ما كان انتصب إليه عند الشروق، فلما كان بعد انتصابه إلى جهة اليمين طالبًا في تفيئه جهة اليسار، سميت تلك الجهات التي تفيأ فيها باسم ما هو طالبه تنبيهًا على ذلك، وفيه إشارة إلى قلة الجيد المستقيم وكثرة المنحرف الرديء.
ولما كانت كثرة الخاضعين أدل على القهر وأهيب، جمع بالنظر إلى معنى {ما} في قوله: {سجدًا} أي حال كونهم خضعًا {لله} أي الملك الأعلى بما فيهم من الحاجة إلى مدبرهم.
ولما كان امتداد الظل قسريًا لا يمكن أحدًا الانفصال عنه، قال جامعًا بالواو والنون تغليبًا: {وهم داخرون} ذلًا وصغارًا، لا يمتنع شيء منهم على تصريفه، وخص الظل بالذكر لسرعة تغيره، والتغير دال على المغير.
ولما حكم على الظلال بما عم أصحابها من جماد وحيوان، وكان الحيوان أشرف من الجماد، رقي الحكم إليه بخصوصه فقال تعالى: {ولله} أي الذي له الأمر كله {يسجد} أي يخضع بالانقياد للمقادير والجري تحت الأقضية، وعبر بما هو ظاهر في غير العقلاء مع شموله لهم فقال تعالى: {ما في السماوات} ولما كان المقام للمبالغة في إثبات الحكم على الطائع والعاصي، أعاد الموصول فقال تعالى: {وما في الأرض} ثم بين ذلك بقوله تعالى: {من دآبة} أي عاقلة وغير عاقلة.
ولما كان المقرب قد يستهين بمن يقربه، قال مبينًا لخضوع المقربين تخصيصًا لهم وإن كان الكلام قد شملهم: {والملائكة}.
ولما كان الخاضع قد يحكم بخضوعه وإن كان باطنه مخالفًا لظاهره، قال- دالًا على أن في غيرهم من يستكبر فيكون انقياده للإرادة كرهًا، وعبر عن السجودين: الموافق للأمر والإدارة طوعًا، والموافق للارداة المخالف للأمر كرهًا، بلفظ واحد، لأنه يجوز الجمع بين مفهومي المشترك والحقيقة والمجاز بلفظ: {وهم} أي الملائكة {لا يستكبرون} ثم علل خضوعهم بقوله دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء: {يخافون ربهم} أي الموجد لهم، المدبر لأمورهم، المحسن إليهم، خوفًا مبتدئًا {من فوقهم} إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو حال كون ربهم مع إحسانه إليهم له العلو والجبروت، فهو المخوف المرهوب، فهم عما نهوا عنه ينتهون {ويفعلون} أي بداعية عظيمة علمًا منهم بما عليهم لربهم من الحق مع عدم منازع من حظ أو شهوة أو غير ذلك، ودل على أنهم مكلفون بقوله تعالى: {ما يؤمرون} فهم لرحمته لهم يرجون؛ فالآية من الاحتباك: ذكر الخوف أولًا دال على الرجاء ثانيًا، وذكر الفعل ثانيًا دال على الانتهاء أولًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات}.
المكر في اللغة عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، ولابد هاهنا من إضمار، والتقدير: المكرات السيئات، والمراد أهل مكة ومن حول المدينة.
قال الكلبي: المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى، والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على سبيل الخفية، ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أمورًا أربعة: الأول: أن يخسف الله بهم الأرض كما خسف بقارون.
الثاني: أن يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، والمراد أن يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط.
والثالث: أن يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين، وفي تفسير هذا التقلب وجوه: الأول: أنه يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم، فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر وهم لا يعجزون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله حيث كانوا، وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ في البلاد} [آل عمران: 196].
وثانيهما: تفسير هذا اللفظ بأنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم.
وثالثها: أن يكون المعنى أو يأخذهم في حال ما ينقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل قسرًا كما قال: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ فاستبقوا الصراط فأنى يُبْصِرُونَ} [يس: 66]، وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} [التوبة: 48]. فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها.
والنوع الرابع: من الأشياء التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية على سبيل التهديد قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} وفي تفسير التخوف قولان:
القول الأول: التخوف تفعل من الخوف، يقال خفت الشيء وتخوفته والمعنى أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أولًا بل يخيفهم أولًا ثم يعذبهم بعده، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك فرقة فتخاف التي تليها فيكون هذا أخذًا ورد عليهم بعد أن يمر بهم قبل ذلك زمانًا طويلًا في الخوف والوحشة.
والقول الثاني: أن التخوف هو التنقص قال ابن الأعرابي يقال: تخوفت الشيء وتخفيته إذا تنقصته، وعن عمر أنه قال على المنبر: ما تقولون في هذه الآية؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص، فقال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم.
قال شاعرنا وأنشد:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ** كما تخوف عود النبعة السفن

فقال عمر: أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا التنقص يحتمل أن يكون المراد منه ما يقع في أطراف بلادهم كما قال تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء: 44]، والمعنى أنه تعالى لا يعاجلهم بالعذاب ولكن ينقص من أطراف بلادهم إلى القرى التي تجاورهم حتى يخلص الأمر إليهم فحينئذ يهلكهم، ويحتمل أن يكون المراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلًا قليلًا حتى يأتي الفناء على الكل فهذا تفسير هذه الأمور الأربعة، والحاصل أنه تعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة واحدة حال ما لا يكونون عالمين بعلاماتها ودلائلها، أو بآفات تحدث قليلًا قليلًا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ثم ختم الآية بقوله: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} والمعنى أنه يمهل في أكثر الأمور لأنه رؤوف رحيم فلا يعاجل بالعذاب.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)}.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما خوف المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام، ليظهر لهم أن مع كمال هذه القدرة القاهرة، والقوة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأقسام الأربعة.